تحليلات

قراءة بحثية في كتاب ”الخمينية وصلتها بحركات الغلو الفارسية وبالإرث الباطني”

بقلم الدكتورة لمياء الكندي - أكاديمية وباحثة في الشأن الإيراني.

الدكتورة لمياء الكندي الأكاديمية والباحثة في الشأن الإيراني، تقرأ في كتاب الخمينية وصلتها بحركات الغلو الفارسية وبالإرث الباطني: تأليف الدكتور فاروق عمر فوزي.

أثبتت حركات النهضة التي عاشتها العديد من الأمم والشعوب أن النظر بعين مجردة للأحداث وتقييمها من دون إخضاعها للمراجعة التاريخية يُعَدُّ عنصرًا مهمًّا في إخفاق أي تجربة إصلاحية تبحث عن حلول لمواجهة الإشكاليات والأزمات بعيدًا عن التتبع التاريخي للأحداث.

فمعرفة التاريخ فريضة لبناء الحاضر ومواجهة سلاسل التحديات التي تتعرض لها مختلف الأمم، فما بالنا بالتحديات الكبيرة التي تواجه أمتنا العربية والإسلامية.

من هذا المنطلق استشعر علماء وشيوخ البحث التاريخي مسؤوليتهم في تتبع أحداث التاريخ التي ساهمت في تشكيل العقائد المنحرفة، والتي أُريد من خلالها إعادة صياغة المشهد الديني والسياسي للأمة.

وقد أدرك الدكتور فاروق عمر فوزي، أستاذ التاريخ في كلية الآداب بجامعة بغداد، في كتابه (الخمينية وصلتها بحركات الغلو الفارسية وبالإرث الباطني)، مخاطر العزل والفصل التاريخي بين ما تعرضت له الأمة الإسلامية قديمًا من عداء فارسي عبر العشرات من الحركات والعقائد الباطنية، وبين ما تتعرض له اليوم من عداء فارسي ممنهج فيما يُعرف بـ”الخمينية”، الدولة الفارسية الحديثة التي شكّل قيامها امتدادًا لحركات الغلو الفارسية والحركات الباطنية التي استهدفت العروبة والدين الإسلامي باعتباره الواجهة الحضارية التي أسست لحكم وتفوّق العرب على غيرهم من الأمم.

جاء الكتاب بما يزيد على مائة وسبعين صفحة، شملت خمسة فصول، واستهل شيخ المؤرخين والمحققين العرب الدكتور بشار عواد معروف الحديث عنه تحت عنوان: كلمة لا بد منها: هؤلاء هم المنافقون حزب الشيطان. وتكلم عن مخاطر الإغفال التاريخي لحقيقة تلك الحركات وامتدادها إلى الوقت الراهن، مشيدًا بدور الصحوة الإسلامية التي انبثق منها من يؤكد ترابط هذا المسار البحثي، بحيث لا تنحصر جهود رجال الإصلاح بالجانب الدعوي والإرشادي للمجتمع المسلم، بل تتعداها إلى تبنّي العديد من رجال العلم للمطارحات التاريخية والموازنات الفكرية التي نستعرض من خلالها مراحل الاستهداف المنظَّم للأمة، وخاصة ما يتعلق بهويتها العربية الأصيلة والقيادة الرسالية للعرب على اعتبارهم مادة الإسلام ونواته التي أثمرت انتشار الدين وشيوع تعاليمه وفق المشيئة الإلهية.

ويرى الكاتب أن ملازمة العداء الفارسي للعرب فرضت عليهم العداوة للدين الذي بشّروا به وقاموا بنشره. وهذا ما استدعى البحث في تلك الحركات والفرق والمذاهب والعقائد الباطنية التي ارتبطت بها، وصولًا إلى ظهور الخمينية كمذهب سياسي يرتكز على قاعدة مذهبية جعفرية اثني عشرية، تُشكّل السياج الحامي والقاعدة التي ينطلق منها الخمينيون لاستهداف الدين الإسلامي والانتماء العربي. وهكذا غدت الخمينية قاعدة جماهيرية شعوبية وسلطة نافذة متنقلة، تُوظِّف عقيدتها الباطنية حينًا وقواها الثورية حينًا آخر في استهداف الدين والعروبة.

ويشير الكاتب في مضمون كتابه إلى أجيال متعاقبة من الزعماء والأدعياء الباطنيين الذين طعنوا في الدين والعروبة، وتكللت جهودهم بظهور الخمينية كدولة إسلامية ذات نظام سياسي وعقيدة مذهبية مشوَّهة عبر العصور، تم تصديرها والترويج لها بشعارات تتوافق مع روح العصر، كـ”نصرة المستضعفين” و”مواجهة المستكبرين وعملائهم”، لتبرير التدخل في شؤون البلدان العربية والإسلامية. كما اتخذت من شعار “الأممية” وسيلة لشرعنة عالمية الثورة وفق مبدأ “تصدير الثورة”، وهو المبدأ الذي بررت من خلاله إيران تدخلها في فرض الحروب والمؤامرات على الدول العربية والإسلامية، باعتبارها المنقذ والمدافع عن الأمة. ثم جاء شعار “تحرير القدس” ليفتح لها الأبواب لتشكيل نواة عربية تؤيد خطابها الثوري وتستهدف النظام العربي الرسمي، ساعية إلى تشويهه وخلق تحالفات دولية تسهم في إضعافه.

ويعرض الكتاب تاريخ تلك الحركات الباطنية وصلتها بالخرافات الفارسية القديمة، مع إضافة عقائد مغالية جديدة تستهدف الإسلام والعرب. فلم تنتظر الجهود الفارسية قرونًا طويلة لإحداث شق عقائدي وفكري وسياسي في قلب المنظومة الإسلامية، بل بادرت منذ الوهلة الأولى إلى استغلال الخلافات حول الخلافة الإسلامية وظهور فرق التشيع لتكون قاعدة للتغلغل وإضعاف الإسلام والعرب معًا.
ويرجع الكاتب بداية ظهور حركات الغلو إلى عصر الخلافة الراشدة، وأولها السبئية، سواء صحّ وجود عبدالله بن سبأ أم لم يصح. وقد زعمت هذه الفرقة أن عليًا لم يُقتل ولم يمت، بل الذي قُتل هو الشيطان في صورته. ثم غلت فيه حتى ادعت ألوهيته. وبعدها جاءت الكيسانية كحركة سياسية باطنية تتستر وراء الأئمة العلويين من آل البيت، رافعة شعار الثأر للحسين، ومعتقدة بالبداء على الله سبحانه وتعالى، أي أنه يغيّر آرائه وقراراته! وهذا الاعتقاد مكَّنها من تبرير تقلباتها الفكرية والسياسية، فضلًا عن ابتداع أفكار كالرَّجعة والبداء والتأويل والتناسخ، التي أخرجتها من دائرة الإسلام. وكان الأخطر في الكيسانية بعدها السياسي، خاصة مع ادعاء المختار الثقفي أنه مرسل من الإمام محمد بن الحنفية، وأنه نائبه، بل وصل إلى ادعاء النبوة وأن الوحي ينزل عليه، حتى وُصف بأنه “حجة الزمان”.

ويرى الكاتب أن ممارسات الكيسانية في القرن الهجري الأول تُذكّر بممارسات الخمينية في القرن الخامس عشر الهجري؛ فكلاهما تستر وراء إمام من آل البيت، وكلاهما نسب إليه صفات تجاوزت حدود المعقول، ولكل منهما “مهدي منتظر” و”إمام غائب” يتصرف باسمه الأدعياء.
ثم يسرد الكاتب ظاهرة نشوء عشرات الفرق الباطنية التي استلهمت تجاربها من الإرث الفارسي، واتخذت من شعار “الموالاة لآل البيت” وسيلة لإسقاط الدولة الإسلامية القائمة. وغلب عليها جميعًا نهج الغلو والعنف، مع تقديس الأئمة ومن ينوبون عنهم إلى درجة الألوهية.

وتمكنت هذه الفرق من ضمان تواجدها داخل النسيج السياسي والعقائدي والمجتمعي بما يضمن استمراريتها. وبعد مقتل المختار الثقفي وظهور فرقة “الهاشمية”، انتقلت فكرة الإمامة إلى رجال من الفرس بحجة انتقال “العلم” لا “النسب”، وهو ما فتح الباب لشرعنة إمامة الفرس. وهكذا تدعي الخمينية اليوم أن “المجتهد” الذي يحيط بعلم الإمام الغائب يتحول إلى حاكم مطلق يمارس السلطة باسمه.

ويرى الكاتب أن هذه الحركات كلها ــ السبئية، الكيسانية، الهاشمية، المنصورية، المغيرية، البيانية ــ تلتها العديد من الحركات كالاسماعيلية والنزارية والحشاشية والقرامطة والبهائية والنصيرية وغيرها و ساعد على انتشارها كون معظم أتباعها من الموالي غير العرب في العراق وفارس، وأن وراءها ديانات قديمة كالزرادشتية واليهودية.

ويمكن أن نلخص مجموعة من النقاط التي تلتقي فيها الخمينية مع العديد من الحركات الباطنية التي شهدتها مختلف العصور الإسلامية وفق الاتي:

أولًا: السمات العقدية والفكري
عقائد خاصة بالله تعالى (الرجعة والبداء):
تقوم على مفاهيم عقدية شاذة، مثل الرجعة والبداء، وتتناقض مع ما استقر عند جمهور المسلمين.

الارتكاز على النسب العلوي:
تجعل الانتساب إلى البيت العلوي أساسًا للشرعية، مما يمنحها سلطة رمزية ودينية عند الأتباع.

تقديس الأئمة وتعظيمهم:
تنسب للأئمة صفات العصمة والقداسة، وتضفي عليهم مقامًا فوق بشري، وأحيانًا شبه ألوهي.

العلم الباطني والسرية:
تؤكد على وجود علوم خاصة “سرية” لا يدركها سوى الخواص عبر الإمام أو الدعاة، مما يميزها عن العلوم الشرعية الظاهرة.

العداء لأهل السنة والجماعة:
تتخذ موقفًا سلبيًا من التراث السني ومصادره الفقهية والفكرية، وتعمل على الطعن فيه وتشويه رموزه.

إنكار الدور العربي في الإسلام:
تقلل من شأن العرب ودورهم الحضاري في قيادة الإسلام، وتستبدله برؤية أممية أو فارسية أو عرقية بديلة.

ثانيًا: السمات السياسية والاجتماعية

النهج الباطني في الدعوة:
تعتمد على العمل السري، الرمزية، والتنظيم المغلق لتحقيق أهدافها دون مواجهة مباشرة في البداية.

إسقاط الدولة القائمة:
تعتبر السلطة الشرعية مغتصبة، وتعمل على تقويضها وإقامة نظامها الخاص.

استخدام العنف والإرهاب:
تلجأ إلى أساليب الاغتيالات، الفتن، والإرهاب كوسائل لتحقيق السلطة والنفوذ.

تضليل العامة وتغييبهم:
تستخدم الخرافة والتأويل الباطني للنصوص لإبقاء الأتباع في دائرة الطاعة والانقياد.

الشعارات البراقة:
ترفع شعارات العدالة، نصرة المظلوم، وتصحيح الدين لاستقطاب الأنصار، بينما الغاية الحقيقية هي السلطة.

ازدواجية الخطاب:
تمارس خطابًا علنيًا عن العدالة والإنصاف، يقابله خطاب داخلي يبرر الاستئثار بالسلطة والمال.

المهدوية والمخلّص المنتظر:
تتبنى عقيدة الإمام الغائب أو المخلّص الذي سيعود لإقامة العدل، وهو ركيزة أساسية في تعبئة الأتباع.

الارتباط بالقوى الأجنبية:
في كثير من الحالات تحالفت مع قوى خارجية معادية للمجتمع الإسلامي لتقوية نفسها على حساب الدولة المركزية.

تفتيت الأمة وتمزيقها:
أدت إلى صراعات داخلية وانقسامات طائفية ساهمت في إضعاف وحدة الأمة وشغلها بصراعات جانبية.

إن قراءة تاريخ هذه الحركات تفضي إلى قناعة بخطورة العداء الفارسي للإسلام والعرب، واستمراره مهما اختلفت الشعارات. وما نراه في السياسات الإيرانية بعد الثورة الخمينية دليل على ذلك.
رابط الكتاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى