د. ذياب الدباء*
تتسارع الأحداث بطريقة دراماتيكية لتفرز واقع جديد يتصدر المشهد فيه من يمسك خيوط القوة والتأثير الحاسم.
وفي ظل المتغيرات الكبيرة على المسرح الدولي يبرز الثقل الحقيقي للمملكة العربية السعودية كقوة مؤثرة جداً رغم حملات التشويش والتشويه الممنهجة.
المملكة حاضرة بقوة في تاريخ الصراع الجيوسياسي الدولي، فمنذ الحرب العالمية الثانية كانت أدوارها رئيسية في
حسم وإخراج المشهد السياسي الدولي والإقليمي سلماً أو حرباً ، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
بداية بلقاء روزفلت والملك عبدالعزيز مطلع العام 1945 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرورا بمرحلة الحرب الباردة التي بدأت في الخمسينات وانتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي، وما شملته من أحداث إقليمية مثل حرب 67 وحرب 73 والحرب العراقية الإيرانية، إضافة الى حرب الخليج الأولى والثانية، ومبادرة السلام العربية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، والأزمة الاقتصادية العالمية 2007-2008، ووصولاً الى الأزمة الروسية الأوربية التي ظهرت اولى اعراضها بالحرب في اوكرانيا.
ولسنا هنا بصدد سرد المواقف التاريخية ولكنها توطئة ليدرك المتابع أن الممكلة العربية السعودية قوة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها على الصعيد الإقليمي والدولي معاً.
لم يكن النفط وحيداً من صنع هذه المكانة وفق ما يردده بعض قاصري النظر في التحليل السياسي، ولو كانت وفرة النفط تصنع فارق بمفردها لتصدرت نيجيريا وفنزويلا على بقية دول قارتي افريقيا وامريكا الجنوبية، لكن الصحيح أن عناصر القوة والتأثير لدى الممكلة تراكمت وتطورت منذ عقود بفعل خطط استراتيجية طموحة، وقيادة حكيمة وقوية، استطاعت تشكيل حضور فعّال ومستمر من خلال المكانة التاريخية والدينية لبلاد الحرمين كزعامة ضمنية للدول الإسلامية، والموقع الجيوسياسي، وبلا شك الثروة النفطية أحد أهم العناصر.
في ظل الأثار المتزايده للأزمة الأوكرانية على الصعيد السياسي والاقتصادي الدولي كانت زيارة بايدن محاولة جادة لترميم الشقوق التي أحدثتها الإدارة الديمقراطية في نسيج العلاقات الأمريكية السعودية والتي بدأت في عهد أوباما واستمرت في بداية ولاية بايدن قبل أن تنجح القيادة السعودية في إجباره على مراجعة حساباته السياسية بدقه.
إضافة إلى السعي الحثيث للاستفادة من الكروت القوية التي بيد المملكة العربية السعودية والتي من شأنها أن تساعد في حسم جولات الصراع القائم حالياً لصالح الغرب وأوربا.
أدركت الإدارة الأميركية مؤخراً أهمية الممكلة العربية السعودية بعد أن تلاشت الفرص امام بايدن في حسم الازمة الأوكرانية بما يحقق المصالح الغربية، وبرزت حالة من الارتباك ومحاولات اخفاء الاعتراف الضمني بأهمية الدور السعودي، وحاجة أمريكا للمساعدة من القيادة السعودية، ولكن حالة التردد لم تدم طويلاً بعد أن تم تحديد مدينة جدة كوجهة رئيسية للطائرة الرئاسية الأميركية، ايذاناً بانتهاء فترة عام ونصف من الركود والمكابرة السياسية للرئيس الأمريكي.
لم تكن السعودية في معزل عن الاهتمام الدولي وهي أكبر وأقوى من أن يتم عزلها من مسرح التأثير، بعد أن أصبحت الرياض عاصمة القرار العربي، وقد استبق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان زيارة الرئيس الأمريكي بزيارة مهمة شملت كل دول مجلس التعاون الخليجي، أعقبها بجولة إقليمية ناجحة شملت مصر وتركيا والأردن.
وفي الأشهر الأخيرة شهدت السعودية والخليج حراك دبلوماسي رفيع بينها وبين المعسكر الشرقي، كانت أهمها زيارة ثعلب السياسية الخارجية الروسية لافروف مطلع شهر يونيو 2022، وتمخضت الزيارة عن لقاء تاريخي مع وزراء خارجية مجلس التعاون لدول الخليج العربية والخروج ببيان مشترك تضمن مخرجات مهمة في صعيد تهدئة الأوضاع السياسية وتطبيع المصالح الدولية واهمها عدم مساندة العقوبات ضد روسيا والاتفاق على ضمان إمداد العالم بالنفط في إطار إتفاقات اوبك بلس.
تتشكل احتمالات كثيرة حول مآلات ومخرجات زيارة بايدن للمملكة ومشاركتة في قمة الأمن والتنمية بحضور قادة مجلس التعاون إضافة إلى مصر والعراق والأردن.
وتتمحور سيناريوهات المرحلة المقبلة في مسارين؛
السيناريو الأول والاوفر حظاً وهو البدء بالعمل المشترك لاستمرار وتقوية التحالف الأمريكي السعودي، وتجديد الشراكة إستراتيجية مع القيادة السعودية الجديدة، وايقاف الدعم الأمريكي للأطراف المناوئة للممكلة والخليج، والضغط على ايران وأذرعها من خلال تشديد العقوبات واضعاف الكيانات التي أسسها الحرس الثوري الإيراني خارج الحدود مثل حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثي المتمردة في اليمن، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وتمكين الممكلة من المشاركة الفاعلة في مسرح العمليات الأمنية والعسكرية الدولية في الشرق الأوسط، والمرتبطة أساساً بأمن الطاقة، وأمن الخطوط الملاحية، وسلاسل التوريد العالمية، وايقاف حملات التشويه والتصعيد القانوني في المجالس التشريعية الأمريكية.
وبذلك سوف تضع الممكلة العربية السعودية ثقلها في المنطقة العربية والدول الإسلامية، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية العالمية في مسار الضغط على روسيا والصين لإيقاف التصعيد العسكري، وتأمين المصالح الغربية-العربية كشركاء في تحالف استراتيجي براغماتي قوي.
تظل الممكلة العربية السعودية رائدة التوازنات الناجحة، والتدخلات الحاسمة والحازمة،
في كل المنعطفات الخطيرة على الصعيد الإقليمي والدولي.
فيما السيناريو الآخر والمستبعد نظراً لحساسية المرحلة، يتمثل في فشل ادارة بايدن في التقاط الفرصة التاريخية، وعدم تفهم وادراك المتغيرات الداخلية والإقليمية في الشرق الأوسط.
وهذا السيناريو سوف يزيد المشهد تعقيد ويضعف الموقف الغربي كونها خسرت حليف مهم وفعال، وبذلك سوف تحاول روسيا والصين التقدم وملء الفراغ وصناعة فرصة تاريخية بتقوية العلاقات مع الممكلة والبدء بتأسيس تحالف فتي وقوي بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط، وبذلك تكتمل دورة حياة القطب الواحد الأمريكية التي بدأت منذ تسعينات القرن الماضي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وايذاناً ببدء مرحلة جديدة عنوانها تعدد الأقطاب والدخول في حروب باردة وساخنة قد تفضي خلال عقود لنفوذ شرقي قوي وطويل الأمد.
وفي كل الأحوال تظل الممكلة العربية السعودية رائدة التوازنات الناجحة، والتدخلات الحاسمة والحازمة، في كل المنعطفات الخطيرة على الصعيد الإقليمي والدولي.
* كاتب، وباحث سياسي. مدير مركز البحر الأحمر للدراسات السياسية والأمنية.