
سجّل المؤرخ الزيدي زين الدين الشرجي الزبيدي شهادة نادرة، تجرّد فيها من الانتماء المذهبي، لينتصر للحق في وجه السلطة. ففي عام 793هـ، وثّق الزبيدي، في كتابه طبقات الخواص، مأساة فقيه شافعي نطق بكلمة حق فكان جزاؤه القتل. كتب القصة كما وقعت: بلا تزويق، بلا خوف، وبلا مواربة.
– كان الشيخ أحمد بن زيد الشاوري، العالم الزاهد في تهامة، لا يملك سلطانا ولا أتباعا، لكنه كتب رسالة صغيرة دعا فيها إلى التمسك بالسنة، فاستفزّت سطورها الحاكم الإمامي محمد بن علي الهدوي، الذي لم يحتمل صوتا مختلفا، فأرسل جنده ليمحو الكلمة بحد السيف.
إنها واحدة من صفحات العنف المذهبي التي كشفت كيف يتحول الاختلاف العقدي إلى دم.
– قاد جيشا إلى دار الفقيه، ووصلت الحملة إلى تهامة فجأة. اقتحم الجنود البيت، وقتلوا الشيخ، وقتلوا ابنه أبا بكر، وأسقطوا معه من كان في البيت من أهله وأصحابه. بعد القتل، نهب الجنود الأموال التي أودعها الناس عند الفقيه، وسرقوا ممتلكات الأهالي. وتحوّل البيت من منارة علم إلى ساحة خراب.
بعد أسابيع، مات الإمام نفسه على نحو مفاجئ، لقد سقط من على دابته، واعتبر كثير من معاصريه ذلك جزاء عاجلا. الفقيه شرف الدين المقري، وهو من قوم الشاوري، رثى الرجل بأبيات تحمل حزنا وغضبا معا وخاطب الإمام القاتل:
لقد أطفأت للإسلام نورا … يضيء العلم منه والصلاح
فتكت بأولياء الله بغيا … وعدوانا ولج بك الجماح
فتكت بأحمد فانهدَّ ركنٌ … من الإيمان وانقرض السماح
فلا تفرح بسفك دم ابن زيدٍ … فما يرجى لقاتله فلاح
– بعد ستة قرون، في الأول من يوليو 2025، الموافق السادس من محرم 1447 هجرية تجددت المأساة بصورتها الأصلية.. وقعت في محافظة ريمة، وتكرّر فيها كل ما حملته القصة القديمة من ظلم وبطش وإرهاب وغطرسة.. الشيخ الجليل صالح أحمد حنتوس، رجل سبعيني، عاش في قرية نائية، وكرّس حياته لتعليم القرآن. لا عداء أعلنه ضد أحد. اكتفى برسالة التعليم، ورفض أن يزجّ بنفسه أو تلاميذه في برامج التعبئة الحوثية.
لم يحتج الحوثيون إلى أكثر من هذا الرفض الصامت.. تحرّكت حملة مسلحة إلى منزله، وفرضت عليه الحصار، ثم قصفت البيت بالقذائف. فاستشهد الشيخ مع أقارب له، وأصابوا زوجته الفاضلة بجراح خطيرة.. خطفوا أبناء أخيه..
– إن الجماعات السلالية لا تطيق معلم القرآن إذا لم يكن تابعا لها، ويشرعن رؤيتها العنصرية بتحريف النصوص واعتسافها.. تخشاه أكثر مما تخشى السلاح. تخشى من يعلّم الأطفال أن الناس متساوون، لأنه ببساطة يهدم سرديتهم الزائفة من أساسها.. تخشى من يرسّخ في أذهانهم آية: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”, فينسف الامتياز السلالي الذي بنيت عليه عقيدتهم السياسية.. لذلك يستهدفون هذا النوع من الشيوخ ليس لأنهم يشكلون خطرا مباشرا، وإنما لأنهم يزرعون الحصانة ضد الاستعباد.
– السلاليون يطاردون الكلمة الحرة، ويخشون التعليم المستقل، ويقاومون كل وعي يهدد سلطانهم.. الكلمة المستقلة تزعجهم، والمسجد الحرّ يقلقهم، ومعلم القرآن الذي لا يربط الدين بالطاعة لهم يصبح عدوا مباشرا، حتى لو لم يعلن عداوته وخصومته معهم.
– ما فعله الإمام الهدوي في (تهامة) قبل ستة قرون فعله الحوثيون في (ريمة) في القرن الواحد والعشرين.. كلاهما رأى في الكلمة خطرا، وفي التعليم تهديدا.. كلاهما أرسل الحملة العسكرية، وقتل الفقيه، ونهب البيت، واختطف الأقارب والمريدين.. أدوات القتل تغيرت، والمنهج لم يتغير.. الفكر نفسه، والبطش نفسه، والمستهدف هو نفسه: المعلم، الهادئ، القارئ، الراسخ.
– إن استشهاد الشيخ صالح حنتوس يحرّر الحقيقة من الصمت، ويدفعها لتقف في وجه قاتليه.. الأطفال الذين تربّوا في مجلسه سيحملون صوته إلى غيرهم.. الزوجة التي رأت دمه ستروي القصة من جديد. والأجيال التي ودعته ستبني ذاكرتها على ما علمه، وعلى موقفه الأخير.
– لقد كتب المؤرخ الهادوي زين الدين الزبيدي جريمة وقعت في تهامة قبل ستة قرون، وخلدها في كتبه، وما حدث في ريمة يمضي في الدرب ذاته، ويظل حاضرا في ضمير الأجيال.
– يطرح تاريخ القمع السؤال نفسه في كل جيل: لماذا يخافون من معلّم القرآن؟
الإجابة ظاهرة في كل بيت تهدّم، وكل طفل فقد شيخه،
فعصبيتهم السلالية لا تحتمل الضوء الذي ينبثق من غيرهم ليهتك أستار خديعتهم وزيفهم وضلالاتهم..
يتغير اسم القاتل، لكن الدم واحد، والخوف هو الخوف، والجريمة لا تتغير.