
ما يجري في حضرموت يتجاوز الأطراف المحلية. المحافظة الأكبر في اليمن تتمدد على مساحة تعادل ضعفي مساحة دولة الإمارات، بصحرائها وحضرها، وسبعة أضعاف مساحة فلسطين التاريخية.
من لاشيء، وبلا مقدمات، انطلقت سلسلة من التشكيلات العسكرية التي أسستها وتنفق عليها دولة الإمارات، متجهة إلى حضرموت قادمة من عدن وما حولها.
في حضرموت، على الجانب الآخر، ثمة تشكيلات عسكرية كبيرة تتبع الدولة اليمنية ووزارة الدفاع، وتتواجد في وادي حضرموت ومدن الوادي. كما تنتشر مجموعة من الألوية العسكرية التابعة ل”درع الوطن” على مناطق واسعة في صحراء حضرموت، وحواضر الصحراء. لا توجد معلومات عن عدد ألوية درع الوطن، المدعومة سعوديا، غير أن معلومات قديمة نسبياً تحدثت عن خمسة ألوية، ومن المحتمل أن عددها قد تزايد بالنظر إلى الوتيرة العالية التي عملت عليها السعودية في هذا الشأن (أنجزت ١٠ ألوية خلال أول ١٢ شهر). كانت مهمتها، فيما يبدو، إيقاف التمدد الإماراتي شرقا وخلخلته جنوباً.
مطلع العام ٢٠٢٣ أصدر الرئيس العليمي قراراً بتشكيل قوات درع الوطن، وتولت المملكة السعودية تأسيس وتمويل تلك القوة.
قرار الإمارات المفاجئ (عقب عودة ولي العهد من أميركا) باجتياح حضرموت ( أو الساحل الحضرمي على وجه خاص) يرفع مستوى التحدي الإماراتي
للإدارة السعودية إلى مستوى غير مسبوق.
تنظر السعودية بشكل خاص لحضرموت، استقرار تلك المناطق يقع في مركز التفكير الأمني السعودي ( لنعد إلى أيام تنظيم القاعدة في حضرموت)، كما تشكل الوطن الأم لنخبة اقتصادية ضاربة داخل المملكة، لديها نفوذ وتأثير في الرياض وتعنى باستقرار موطنها الأصلي.
تلك النخبة الحضرمية معزولة كلياً عن مشاغل ومشاكل “قرى الدوم” الثلاث، التي نمت مؤخراً وصارت جيشاً.
تبدو الرسالة الإماراتية بالغة الخشونة هذه المرة، كما لو أن أبو ظبي تريد أن تقول لولي العهد “ستدفع ثمن مكيدتك في البيت الأبيض”.
غير أن العبث في “الحرم الأمني” للسعودية ليس بلا عواقب، وقد يستفز الدولة التي لا تستخدم مخالبها وأنيابها إلا لماماً. قراءة التاريخ السعودي في القرن العشرين تعطي صورة عن عناية الدولة السعودية بصورتها وحرصها الشديدة على مكانتها في الذاكرة المسلمة. وحتى قبل اجتياح قوات الملك عبد العزيز للحجاز كانت رسائل التطمين والتبرير، التي كتبها، قد بلغت أندنوسيا.
وأما حرب اليمن فقد أوقفت الجماعة الجهادية الحوثية على مشارف تعز، وكان ممكناً أن تكون الآن في عدن والمكلا والعبر، أي نصف مليون كم مربعاً من الأرض العربية تحت كف خامنئي.
بالأمس اعترف نعيم قاسم بأن طبطبائي، القائد العسكري لحزب الله، عمل ل ٩ سنوات في صناعة القوات المسلحة الحوثية. وبالضرورة فقد قاد المعركة التي أنهت حياة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح.
لم تكن الإمارات في حالة من الحب مع الرياض، وقصة الغرام القصير التي حدثت مع انتقال السلطة من ملك إلى آخر، بعد ٢٠١٥، كان لا بد أن تبلغ حدودها.
بل يمكننا القول أن الأيادي الطائشة للإمارات، واشتغالها على كل التناقضات، من تمرير الأموال لحزب الله – كما في تقرير حديث لوول ستريت جورنال – إلى تزويد إسرائيل بالمعدات العسكرية ( تقرير حديث على أكثر من منصة إسرائيلية) لا يمكن النظر إليه سعودياً إلا كتهديد للأمن القومي، وفي أفضل الأحوال فهي”جار لا يمكن التنبؤ بأفعاله”.
ربما لم تعد الإمارات قادرة على العودة الآمنة إلى داخل حدودها، فقد تورطت في إنشاء دويلات داخل الدول العربية: ليبيا، السودان، اليمن. كل ذلك قد يرهقها مستقبلاً.
حرب باردة بين الدولتين قد تشجع دولا عربية كثيرة للاحتماء بالرياض. لنتذكر أن قطر، التي دعمت الربيع العربي وانتفاضاته، أصيبت بالإعياء وأرهقتها الخسارات مما اضطرها إلى مغادرة اللعبة كليا، بل ونقل السلطة من الأب إلى الابن ثم الانتقال إلى حقل آخر: صناعة السلام بين الدول المتحاربة في القارات البعيدة. حقل نشاط أبعد ما يكون عن شرقنا الأوسط السائل.
بقيت خمسة أعوام على إنجاز رؤية ٢٠٣٠ السعودية، ويدرك الملاحظون أن السعودية تنمو على حساب مكانة الإمارات. يمكنك قراءة مثل هذه الانطباعات في الصحافة الدولية ببساطة.
يبدو مشروع الانفصال اليمني واحداً من أكثر المشاريع فشلاً في التاريخ اليمني، ولا يتفوق عليه في الفشل سوى مشروع الديموقراطية اليمنية.
فهو، الانفصال، يلقي بنفسه في حضن دولة بعيدة وصغيرة. بل هو مشروع يقع جغرافياً في فضاء الأمن القومي السعودي، ويقدم نفسه كأرض مستباحة لدولة طائشة.
الدولة التي تمرست في صناعة الدويلات العربية، بما أزعج وأخاف كل الأنظمة العربية بلا استثناء، سيصيبها الإعياء، وربما الخجل، وربما الخوف.
فقد ألقى غورباتشوف يوماً ما – من شدة الإرهاق- بالحبل من الأعلى وترك دويلاته ودوله تسبح بمفردها في الفضاء.
– المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن الموقع



