
في الجغرافيا السياسية، كما في الطب، لا تكفي معرفة “المرض”، بل ينبغي معرفة “الأقرب إلى التهديد” و”الأكثر إلحاحًا وضرورة البدء في العلاج”.
وبينما لا خلاف على أن إسرائيل وإيران كلاهما يشكل خطراً على الأمة الإسلامية والعربية، فإن ترتيب الأولويات ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية.
تخيل هذا المشهد: دولة تُعلن العداء اللفظي لإسرائيل منذ نصف قرن، تتوعدها صباح مساء، تهتف بالموت لها في كل منبر، بينما في الواقع، لم تطلق على تل أبيب صاروخاً واحداً حتى بلغت النار أبواب عاصمتها!
فهل يكون هذا “عدواً وجودياً” أم ممثلاً بارعاً في مسرح العداء المُتلفز؟
هل تعلم أن إيران ـ الدولة التي تمخضت عن الثورة الإسلامية قبل 46 عاماً ـ لم تخض أي معركة حقيقية ضد إسرائيل حتى يومنا هذا؟
لم تكن هناك “نكسة”، ولا “اجتياح”، ولا “حرب تحرير”، بل كانت كل حروبها العسكرية، الإعلامية، والمخابراتية، موجّهة حصريًا ضد محيطها العربي والإسلامي.
•في العراق، كانت الدماء تنزف من كل حيٍّ سنيّ على يد ميليشيات مدعومة من الحرس الثوري.
•في سوريا، دخلت إيران لا كحليف بل كمحتل طائفي، يشيد المزارات ويقصف المدن ويجعل من حلب مسرحًا للحسينيات بدل أن تكون حصناً للثوار.
•في لبنان، اختطفت إيران القرار عبر وكيلها “حزب الله”، فلم تجرؤ أي حكومة على ممارسة سيادتها دون رضا الولي الفقيه.
•في اليمن، دعمت انقلابًا مسلحًا على الدولة وتحالفت مع الحوثيين لضرب العمق السعودي والخليجي.
•في البحرين، مولت الفوضى ودعمت الاحتجاجات المسلحة.
.في الكويت عبثت في أحشائها حتى ارتوت !
•وحتى باكستان وأفغانستان، لم تسلما من التحرش العسكري الإيراني.
بينما كانت إسرائيل ـ على قبحها ووحشيتها واحتلالها ـ تتحرك في جبهة واحدة معروفة ومحددة،
كان “الخطر الإيراني” متشعبًا، متسللاً، يلبس ألف وجه، يدخل كحليف ثم ينقلب إلى عدو، يحارب بميليشيا لا بعلم، ويختبئ خلف شعارات دينية وطائفية ويزايد باسم القضية الفلسطينية، بينما طائراته تنطلق من مطار دمشق لتقصف إدلب لا الجليل !
لنقرأ الماضي قليلًا، فالتاريخ مرآة الشعوب:
•الدولة الصفوية، التي أسست الهوية الطائفية لإيران، لم تفتح بلدًا، بل كانت خنجراً في ظهر الفاتحين. أثناء انشغال العثمانيين بفتح أوروبا، باغتتهم الصفوية في العراق وارتكبت مذابح بشعة في بغداد والبصرة. أجبرت الجيش العثماني على توقيع معاهدات سلام مع النمسا والعودة شرقًا لإخماد التهديد الصفوي.
•لم تُسجل إيران عبر تاريخها أي مشاركة لتحرير القدس، أو دعم حقيقي لقضية عربية. على العكس، كانت تنقض في اللحظة الحاسمة.
العدو الذي يعترف، والعدو الذي يتخفى:
إسرائيل عدوٌ واضح، لا يُخفي نفسه، لا يُزيف نواياه، وقد حاربه العرب وواجهوه في حروب عديدة، ونعرف خريطته وأهدافه.
أما إيران، فهي تتحدث باسم “الممانعة” وتبيعنا وهم “تحرير القدس عبر القصير وحلب”، وتدعي أنها حامية المستضعفين بينما تقصفهم بطائرات روسية وتحت راية مذهبية.
“العدو الصريح أهون من العدو المقنّع” — قالها ابن خلدون، وصدق.
من منظور جيوسياسي:
•السوري الذي هُجّر من بيته، وفقد عائلته تحت صواريخ الحرس الثوري الإيراني، كيف تطلب منه أن يرى إسرائيل عدوه الأول؟!
•اليمني الذي يُقصف يوميًا من ميليشيات طائفية مدعومة من طهران، هل تطالبه أن يهتف ضد تل أبيب أولاً؟!
•السعودي الذي رأى عاصمته تُقصف بالصواريخ الإيرانية، ويُهدد القادة السياسيين والعسكريين بلده بالصوت والصورة، كيف يُقنعه أحد أن العدو رقم واحد في الوقت الراهن هو إسرائيل؟!
بينما المصري الذي فقد آلاف الجنود في سيناء، وعانى من ثلاث حروب ضد إسرائيل، فإن ذاكرته الوطنية ستضع إسرائيل في صدارة أعدائه، وهذا منطقي تمامًا.
كل أمة ترى العدو الأقرب إليها هو الأخطر.
هو ليس صراع مذاهب يا إخوة الدين والضاد ، بل صراع مشاريع وهيمنة..
فلا تبتلعوا الطُعم يا قوم.
الخلاف مع إيران ليس خلافًا مذهبيًا عابرًا كما يروج بعض السذج أو المتواطئين.
لو كان كذلك لكان منذ ألف عام.
المشكلة اليوم أن إيران خرجت من كونها “دولة” إلى مشروع أيديولوجي أممي، توسعي، يقوم على تصدير الثورة، واختراق المجتمعات، والسيطرة على القرار العربي.
ما يجري منذ أربعة عقود ليس حوارًا دينيًا ولا جدلاً مذهبيًا، بل هو حرب شاملة، تُخاض بالسلاح والميليشيات والدعاية، وبأموال النفط المسروق، وبالتحالفات الدولية التي تغطيها واشنطن أحيانًا، وتغض الطرف عنها موسكو دائمًا.
يُقال إن “إيران تطلق صواريخها على القدس إعلاميًا، وعلى مكة عمليًا”.
وصدق الذي قال:
“إيران لا تفكر بالقدس، تفكر بأن تُصبح قائدة العالم الإسلامي عبر البوابة الشيعية، وتحكم الحرمين كما حكمت بغداد من قبل”.
والله من وراء القصد..