
من خلال مراقبتي الدقيقة لمسار الحرب الجوية بين إسرائيل وإيران، بدا جليًا أن التفوق العسكري وحده لا يكفي لفهم ما حدث. فالسلاح، مهما كان متطورًا، لا يحسم المعركة ما لم يُدار ضمن استراتيجية واضحة وقيادة فعّالة. ما برز في هذه المواجهة أن هناك عنصرًا حاسمًا آخر كان له دور جوهري في ترجيح الكفة، وهو “إدارة المعركة”. هذا الجانب، الذي يشمل القرار السياسي والاستخباراتي والنفسي، كشف عن فروقات جوهرية بين الطرفين، يمكن تلخيصها في خمس مفاصل رئيسية:
اولا : ديناميكية القيادة. أظهرت القيادة الإسرائيلية مرونة عالية، وقدرة على اتخاذ قرارات سريعة في توقيت حرج، متكئة على توافق سياسي وأمني واضح. في المقابل، بدت القيادة الإيرانية مترددة، محكومة بهياكل بيروقراطية وعقائدية معقّدة، وربما منقسمة داخليًا بين تيارات سياسية متباينة الرؤية، ما أثر على سرعة استجابتها.
ثانيا : الاختراق الاستخباراتي وفعالية المعلومة. امتلكت إسرائيل تفوقا استخباراتيا ملحوظا، بدا واضحًا في دقة الضربات التي استهدفت قيادات حساسة داخل إيران. قدرة تل أبيب على جمع وتحليل وتوظيف المعلومة من الداخل الإيراني كشفت مدى هشاشة المنظومة الأمنية في بعض مفاصل النظام الإيراني، خاصة في ظل استهداف عناصر من الصف الأول دون إنذار مبكر.
ثالثا : الخيال السياسي والمناورة والخداع. اعتمدت إسرائيل على استراتيجية خداع معقدة، شملت التضليل الإعلامي والسياسي وربما تنسيقًا إقليميًا غير مُعلن، ما سمح لها بتحقيق عنصر المفاجأة. في المقابل، عجزت إيران عن تقديم سردية سياسية واضحة للرأي العام، سواء داخليًا أو إقليميًا، ما جعل ردّ فعلها يبدو مرتبكًا ويفتقر للمناورة الذكية.
رابعا : الجرأة وامتلاك زمام المبادرة. أظهرت إسرائيل جرأة غير مسبوقة في استهداف العمق الإيراني، متجاهلة المخاطر المحتملة، معتمدة على وضوح في الهدف وثقة في القدرة على إدارة التصعيد. بينما بدت إيران مشغولة بحسابات الرد وتبعاته، ما أظهرها في موقع الدفاع لا الهجوم، وطرح تساؤلات عن مدى جاهزيتها الحقيقية.
خامسا : وضوح الهدف مقابل الغموض والتشتت. إسرائيل دخلت هذه المواجهة بهدف محدد: تقويض قدرات إيران وتقليم أظافرها الإقليمية من خلال ضرب الرأس لا الأطراف. في المقابل، لم يظهر أن لدى إيران هدفًا واضحًا سوى الرد الاعتباري، ما أضعف موقفها أمام جمهورها وأمام خصومها على حد سواء.
هذه الفوارق في إدارة المعركة، وليست فقط أدواتها، هي ما شكلت الفارق الحقيقي برأي في هذه الجولة. ولعل الأيام القادمة ستكشف إن كانت إيران قادرة على تجاوز هذا الاختبار، أم أن المرحلة المقبلة ستشهد تحولا أعمق في شكل نظامها السياسي والعسكري.