مقالات

عقدة “الشيعي” في ثقافته التاريخية

محمد العلائي

بحُكم ثقافته التاريخية المتمركزة حول “آل البيت”، لا يستطيع “الشيعي” غالباً أن يشارك الآخرين في تعظيم وتقدير الأبطال والقادة العرب الذين فتحوا الشام وفلسطين وبيت المقدس وانتزعوها لأول مرة من أيدي الروم (عمر بن الخطاب وخالد وابو عبيدة وعمرو بن العاص وغيرهم)، ولا القادة الذين حرروها وانتزعوها فيما بعد من أيدي الصليبيين (صلاح الدين الأيوبي وأسرته وأجناده)، على سبيل المثال لا الحصر.

إنها ثقافة نشأت وتطورت على الهامش من التاريخ الإسلامي الكلي، فكانت لهذا السبب أشبه بذاكرة مضادة تنتقص عموماً من قيمة الفتوح والمغازي طالما لم يكن لـ آل علي يد فيها، وتأمر المنتمي لها أحياناً بأن يلعن بعض كبار الفاتحين، وأن يغلِّب الهوى على الحق.

والشيعي يبرر هذا الموقف باعتباره جزء من خصوصيته الدينية والمذهبية.

إلى هنا والأمر معتاد ومألوف.

المفارقة هي أن تجد هذه الأيام شخصاً ينتمي إلى هذه الثقافة، وإلى هذا المشرب، يستنكر عدم مشاركة الآخرين له في تعظيم وتقدير وتقديس شخصيات معاصرة من أهل ملّته ليس لأنهم حرروا القدس وفلسطين، بل فقط لأنهم كما يقول كانوا ينوون -محض نية- تحريرها، فكيف لو فعلوا وحققوا من الانتصارات عُشر معشار ما حققه قديماً أولئك الفاتحون العظام الذين يزدريهم في ثقافته ويحطّ من قيمة أعمالهم!

في نظر الشيعي الملتزم، يكون قليلُ الرجل من “آل البيت”، من الأعمال والنجاحات والمآثر، كثيرٌ يستوجب المبالغة في التعظيم والتقديس، وكثيرُ سواهم، من الأعمال والنجاحات والمآثر، بخسٌ وقليل لا يستوجب المدح ولا الذكر الحسَن.

ذلك أن “النسَب الشريف” يقع في قلب الاعتقاد الشيعي، ومعنى ذلك أن لصاحب هذا النسب فضلٌ وشرفٌ أصلي مُستمَد من نسبَه، حتى لو لم يأتِ في دنياه من العمل الصالح قليل ولا كثير، فكيف لو أضاف إلى النَّسَب شيءٌ من العمل وشيءٌ من النجاح، كأن ينتصر في معركة، أو يؤسس إمارة ومُلك، أو يؤازر قضية صحيحة!

لكن حتى هزائم الرجل من “آل البيت” السياسية والعسكرية تُعدّ في الثقافة الشيعية من أسباب تبجيله وتقديسه بلا حدود.

ولطالما كان هذا النمط من الوعي والتفكير مرتعاً خصباً تعشعش فيه أشكال من الخرافة والأساطير المنافية للعقل، وذلك عبر ترميز وتعظيم وعبادة سلسلة كبيرة من ذوي “النسب الشريف”، رغم أنك لو بحثت ودققت في سيرهم الحقيقية فلن يحالفك الحظ بالعثور على شواهد موضوعية -حربية أو سياسية أو أدبية علمية- تدل بذاتها على العظمة والتفرد.

والأصل أن الشريف الحقّ هو فقط من يحصل على التعظيم والمدح جزاءاً عادلاً على أعمال عظيمة نافعة، مهما يكن نسبه أو أرومته، وليس ذلك الذي يظن أن رفعته وعظمته نفسها “جوهر” سابق على العمل العظيم الرفيع النافع ومستقل عنه تمام الاستقلال، فإن أضيف إليه عمل، كبيرٌ أو صغير، فلا مناص من رفعه بعد ذلك إلى مقام الألوهية!

وقد كتب الجاحظ ذات مرة ساخراً وملمحاً إلى أوهام الشيعة حول من يسمونهم بـ الأئمة المعصومين: “وكيف يجوز أن يكون أكمل الناس خفي العلم ومغيَّب العمل؟”.

فلا يكون الكامل من الناس كاملاً، كما يقول الجاحظ، إلا حين تكثر تجربته ويكثر صوابه، ويشتد حلمه، ويحسن تدبيره.

إنّ الفعل يدلّ على الرجل أصدق مما يدلّ عليه نسَبه.

والفعل العظيم نفسه نسَب يعلو في الشرف على أي نسَب، وكما قال المتنبي:

أَفعالُهُ نَسَبٌ لَو لَم يَقُل مَعَها

جَدّي الخَصيبُ عَرَفنا العِرقَ بِالغُصُنِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى