
لم يكن أكثر المتفائلين يأمل أن تحقق ثورة الشعب السوري على النظام العنصري الديكتاتوري ومن يقف خلفه من المليشيات الإيرانية، هذا الانتصار الناجز في هذا التوقيت وبهذه المدة، لا سيما أن نظاماً يحكم بالحديد والنار منذ نحو 60 عاماً، آخر 15 عاماً منها بطش بالشعب الثائر بصورة مروعة، لكنه سقط تاركاً خلفه آثاراً مرعبة من سجون معتمة كانت بمثابة مقصلة، وقصص وحشية من البطش والتنكيل بمساعدة مليشيات شيعية جمعتها إيران من شذاد البلدان، وتماثيل لحافظ وبشار أكثر من المدارس.
ومهما يكن، فما جرى في سوريا لم يكن صراعاً محلياً ذا طابع وطني بالنسبة للنظام الساقط، وهو الذي بات مرتهناً لنظام الملالي في طهران وقم، وصار أمين عام حزب الله الهالك حسن نصر الله من يتوعد ويقرر، وخلفه مليشيات الحشد الشعبي العراقي وزينبيات وحسينيون وغيرها من المليشيات الطائفية والعنصرية، لا سيما أن نظام عائلة الأسد هو نظام عنصري، تمكنت فيه أقلية (العلويون) من السلطة والسطوة، ومارست السطوة والبطش على غالبية الشعب السوري، وبقية الأقليات، غير أن ثورة الشعب السوري كانت وطنية بأهداف ومطالب وطنية، تجاوزت الأعراق والطوائف، رغم أن سوريا تدنست خلال عقد ونصف بمشروع فارسي أراد تحويل عاصمة الأمويين وحاضرة سوريا إلى حسينيات وأضرحة وفكر شاذ، وارتكب في سبيل ذلك أبشع الجرائم، لم تكن البراميل المتفجرة وفروع المخابرات إلا صورتين من صور كثيرة من البشاعة والدموية التي واجهها السوريون.
وإذا ما طرح السؤال: ما الذي يعنيه انتصار الثورة السورية لليمن؟ فالمؤكد أنها تعني الكثير، فهناك الكثير من أوجه الاتفاق، والقليل من أوجه الاختلاف التي لا تؤثر على مسار التحرر العربي والنضال المتشابه لدحر الخطر الإيراني، الذي اتخذ من المليشيات في الدول العربية ومنها نظام عائلة الأسد، ومليشيا الحوثي السلالية الإرهابية، متارس متقدمة لتحقيق أطماع الثورة الخمينية وأرضية لفكرة تصدير الثورة، والتي تعني السطو الإيرانية عبر أذرع أصبحت تابعة للحرس الثوري الإيراني.
لقد بات واضحاً أن المحور الإيراني يضم حزب الله اللبناني، وهو الرأس الأقدم والأكبر والمتحكم، ومليشيات الحشد في العراق، وجيش العائلة الأسدية الذي تحكم قبضته الطائفة العلوية، ومليشيا الحوثي في اليمن، وهو ما عبرت عنه قيادات الحرس الثوري الإيراني، حيث قال أحدهم بفجاجة، أن ايران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، ولم تخف هذه المليشيات تبعتها بإيران، سواء عبر الخطاب أو الشعارات أو العناوين والذرائع التي تقدمها بين يدي جرائمها وأطماعها، فهي تتذرع بـ “فلسطين والمقاومة” وتتاجر بها في الحقيقة.
عادت الإمامة العنصرية (بنسختها الحوثية الأردأ) لتطل بقرنها في اليمن منذ الثمانينات برحلات العمائم إلى طهران وقم، وبدأت تخرج من جحورها مع سيطرة إيران على العراق بواسطة الغزو الأمريكي الذي كشف حاكمه العسكري (بريمر) عن رغبة غربية في تمكين الأقليات على رقاب الشعوب ذات الأكثرية السنية، لتعمل فيهم السلاح والتهجير، وطفح المشروع الحوثي في 2004 متسلحاً بالعنف وصناعة التوحش لارهاب المجتمع واخضاعه، وشعارات خادعة، وفي 2014 اجتاح عاصمة اليمنيين، ووصل إلى عدن، قبل أن يكون لليمن جيشاً تؤازره مقاومة شعبية، ويسنده تحالف عربي، أعاده إلى الخلف، ليقطع الطريق على الأطماع الإيرانية.
عقد من الحرب بين الشرعية اليمنية وتمرد الحوثي العنصري، الذي بات إيرانياً هوية وفكراً وسلاحاً، ومنهج سلالي متوارث يرى قتل اليمنيين الرافضين له قربة إلى الله وسلب أموالهم من صميم عقيدته، ولذلك كله لم تفلح الجهود الإقليمية والدولية في إحلال السلام الذي يليق بالشعب اليمني.
وفي الربع الثالث من 2024، كان الذراع الأقوى لإيران يترنح، وهو يناوش دولة الاحتلال الإسرائيلي، لتحسين صورته بنصرة غزة وفلسطين، بعد أن تشوهت بما اقترفه في سوريا وتدخلاته في اليمن والعراق، حتى قتل كل قادة صفه الأول، لتتحرر بيروت من قبضة الحزب الإيراني، ليفاجئ الشعب السوري العالم، بتحقيق نصر ناجز، استغل التحولات والمتغيرات الإقليمية والدولية، بشل يد إيران، وانشغال روسيا الغارقة في صراعاتها، لكن الأهم هو عزم السوريين وإرادتهم وتوحدهم، ليطهروا دمشق من المشروع الإيراني.
انهيار حزب الله وسقوط الأسد وايران في سوريا، أصاب الحوثي وعصابته بالرعب، فخرج كهنتهم للتغطية على ذلك بأحاديث تفضح أكثر مما تستر، ووصل الأمر إلى التذاكي وأنهم لم يكونوا مع الأسد، وظهروا بصورة مذعورة تبدت من خلال التحذيرات وأحياناً التهديدات لليمنيين، لا سيما أن السخط الشعبي في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي قد بلغت ذروتها، والعصابة السلالية قد تحكمت بكل شيء واتخمت بالأموال المنهوبة وأفقرت الناس وقطعت الرواتب وانحسرت أسباب الحياة، ومع كل ذلك بطش وقمع وسجون معتمة كان آخر من ألقوه فيها المحتفلين بالذكرى الـ62 لثورة 26 سبتمبر، ولم تسلم حتى النساء، وحاول الحوثي أن يقدم خطاباً ليناً منمقاً، ووعوداً بصرف الراتب، غير أن كل ذلك لم يفلح في إخفاء حالة الذعر من السقوط المحتم.
وبمقابل ذلك، أنعش انتصار السوريين، آمال الشعب اليمني بالخلاص من مليشيا الحوثي واستعادة دولتهم ووطنهم وعاصمتهم المخطوفة، وعقدوا مقارنات بين نظام الأسد ومليشيا الحوثي، من حيث العنصرية والإجرام، والتبعية لإيران، ومعادة الشعب، وبدت الفرصة مهيأة لبتر ذراع إيرانية أخرى لتتحرر اليمن، وهو ما أكدت تصريحات قيادات في الجيش اليمني، وبيانات القوى السياسية، التي تؤكد على مواصلة معركة التحرر، ومع كل ذلك لا يجد الحوثي حلاً لإطالة سيطرته وبقائه إلا أن يلوذ (كما هي عادته في المخاتلة والدجل) بالقضية الفلسطينية ونصرة غزة، وبممارسات طائشة في البحر الأحمر، ويستجلب القصف الأمريكي والبريطاني، وأخيراً إسرائيل، عل ذلك يغسل جرائمه ويبيض وجهه الذي لا يراه اليمنيون إلا إيرانياً، وآلة تقدم اليمن قرباناً لمصلحة طهران، خصوصاً بعد نقل خامنئي مركز قيادة محور إيران إلى اليمن، لتسلم طهران، وهي تطورات مهمة، يجب أخذها في الحسبان من قبل القيادة اليمنية التي يجب أن تستغل كل المتغيرات، باتجاه استعادة اليمن وحرية شعبة، والاسهام الفاعل في تحقيق الأمن القومي العربي، حيث تتصارع إيران وإسرائيل بسقف محدد.
طوال أكثر 10 سنوات، كان الموقف الغربي يقف إلى جانب الشرعية صوتاً، وإلى جانب مليشيا الحوثي فعلاً، -كما في الحالة السورية- حتى أنه وقف سداً أمام تحرير الحديدة في 2018، ووفر كل أسباب سيطرة الحوثي، بل وسانده اقتصادياً ولوجستياً أحياناً، فهو لا يرى الحوثية إلا مهدداً لليمنيين، وأقلية يمكن أن تستمر لخدمة أجندته، ولكن حماقة الحوثية وسكرته أخرجته عن طوره، وغير الموقف الدولي تجاهه، وهو ما يجب أن يقتنصه اليمنيون -كما فعل السوريون- وأن تستغل قيادتهم السياسية “المجلس الرئاسي” حالة الغليان الشعبي في مناطق سيطرة المليشيا، والتطلع الشعبي ليكون 2025 عام الانعتاق، فقد توفر الصمود الشعبي، والموقف الدولي المتغير، والدعم العربي المستمر منذ 2015، وانهارت الروايات الدعائية الحوثية، وضعفت إيران، وباتت سوريا صديقاً لليمن والعرب، وقرارات دولية تعطي الشرعية الحق في استعادة الدولة سلماً أو حرباً، والأول لم يتحقق رغم كل التنازلات.
واليوم وقد تشابهت الأحداث والوقائع والمعطيات، فإن عامة الشعب اليمني يحبس أنفاسه بانتظار أن يثب الجيش والمقاومة، وتلتف القوى الوطنية خلف القيادة السياسية، وبدعم الأشقاء، لتحرير اليمن وعودة ملايين المهجرين، وإطلاق آلاف المختطفين، وليتنفس ملايين اليمنيين في مناطق سيطرة المليشيا الصعداء، وافشال مشروع ايران المعادي للعرب ودولهم، ولتعوج اليمن كلها وعاصمتها إلى حضنها العربي، وتسهم في تحقيق السلم، وهذه مسئولية وطنية وأخلاقية وإنسانية، يقع أغلبها على مجلس القيادة الرئاسي.