الهاوية التي تحفرها جماعة الحوثي بنفسها.. من الجرموزي إلى الرزامي
الكاتب | محمد نبراس العميسي

تبدو الحكاية في ظاهرها خلافاً تافهاً بين شاعرٍ وقياديٍّ في جماعة الحوثي، لكن خلف هذا الصخب تختبئ أعمق معركة تشهدها الجماعة منذ قيامها. فحين تُلقى التهم في العلن بين جحاف والجرموزي، وتُقذف الأعراض وتُشهر الفضائح، فاعلم أن النيران اشتعلت في عمق الهرم، وأن الجبهة الداخلية باتت على وشك الانهيار. من هنا تبدأ الهاوية التي تحفرها الجماعة بنفسها، من أبواقها الصغيرة وصولاً إلى صراعات أجنحتها الكبرى، من الجرموزي إلى الرزامي.
في الواجهة بدا المشهد كما لو أنه فضيحة أخلاقية بين شاعرٍ وناشط من الجماعة؛ سباب، واتهامات بالدعارة، وصراخ عبر وسائل التواصل. هكذا أرادوا لنا أن نرى. في الظاهر صراع بين عبدالسلام جحاف ومحمد الجرموزي، وفي العمق هو انعكاسٌ لصراعٍ أعمق بكثير.. صراع الأجنحة في قمة الهرم الكهنوتي، بين الخيواني وعلي حسين الحوثي، بين المداني والرزامي، بين العم والابن والولي.
المناوشات الأخيرة بين جحاف والجرموزي ليست سوى طُعمٍ إعلامي، رُمي إلى الناس ليشغلهم عن النار المشتعلة في جوف الجماعة. حين يتبادل الشيوخ والقيادات الشتائم، فاعلم أن المعركة في الداخل بلغت حداً يهدد تماسك البنية كلها.
ما جرى لم يكن سوى غطاء على الصراع العنيف بين جناحين: جناح الولاية السلالي، وجناح القبيلة الذي يتزعمه الرزامي. هذا الأخير لم يعد ذلك التابع المطيع، بل صار رقماً صعباً داخل المعادلة الحوثية، يحتمي بالقبيلة كدرعٍ أخير في وجه الجناح السلالي المتغوّل، ويستمد من القبيلة سلاحاً معنوياً يحمي به بقاءه
الرزامي اليوم يقف على خيطٍ رفيع بين الحياة والموت السياسي، فكل الأجنحة السلالية تراه خطراً مؤجلاً. حين وقف إلى جانب الشيخ الضبيبي، لم يكن يدافع عن رجلٍ بقدر ما كان يكرّس لوجود القبيلة داخل الجماعة. وعندما اتهم الجرموزي الشيخ الضبيبي بالدعارة والخيانة، كان الهدف الحقيقي هو الرزامي نفسه. إنها لغة الكهنوت: لا يُقال الهدف صراحة، بل يُرمى الاتهام في الظل ويُفهم المعنى من بين السطور.
الجرموزي، بلسانه السفيه، لم يكن يغرد وحده؛ خلفه جناح المداني، ووراء المداني أيادٍ إيرانية تعرف أين تضرب. فالرجل لم يتهم الضبيبي إلا ليمس الرزامي، والرزامي هو الصخرة التي تتكسر عندها أطماع الجناح السلالي في إخضاع القبيلة.
لكن ما يجري أعمق من هذا كله.
ففي قلب صعدة، يتنامى جناح جديد يقوده علي حسين بدر الدين الحوثي، نجل مؤسس الجماعة، والمدعوم من جده عبدالكريم الحوثي، وزير داخلية الجماعة والرجل الغاضب من تهميشه لصالح عبدالملك.
يُنشئ عبدالكريم حفيده كما يُنشئ المخلّص القادم: يريد به أن يعيد مجد الأب المؤسس، ويسترد «حق الولاية المسلوب».
إنكار علي حسين يعني إنكاراً لشرعية الفكرة نفسها، للولاية كقَدَرٍ مقدس.
ولهذا يخوض عبدالملك حرباً ناعمة ضد ذكرى شقيقه حسين بدر الدين؛ يحذف أقواله من المناهج، ويُقصي روحه من أدبيات الجماعة، لأن بقاء الأب الروحي يغذي طموح الابن المنتظر.
في قلب هذا الصراع، يتحرك الرزامي بذكاء القبيلة، يرى في الجناح الناقم (عبدالكريم وعلي حسين) حليفاً مؤقتاً يحميه من بطش عبدالملك، لكنه يعرف أن مصيره سيكون مأساوياً إن انتصر أي طرف؛ فعبدالملك سيقصيه إن بقي، والجناح السلالي سيغدر به إن غلب.
إنه ضحية محتومة في كل سيناريو.
تاريخياً، لم تتغير القاعدة: السلالة تستخدم القبيلة ثم تجهز عليها. كما فعلت الدول والسلطنات القديمة، وكما فعل صقر قريش في الأندلس. فحين تنتصر بهم، تضربهم لتستقر.
اليوم يُعاد المشهد ذاته في صنعاء:
الخيواني، ذراع عبدالملك الأمنية، يخوض حرباً صامتة ضد علي حسين، بينما يصدر عبدالملك أوامره بإعادة هيكلة المخابرات لإضعاف جناح العم وابن الأخ، وربط كل الأجهزة به مباشرة، ليُمسك بخيوط القوة بيده وحده. هي حرب أجهزة ودماء باردة.
وحين نقرأ في ذاكرة التاريخ، نرى المشهد العباسي يتكرر: العم عبدالله بن علي خرج على ابن أخيه المنصور بعد وفاة السفاح، مدّعياً الأحقية بالخلافة. داهنه المنصور مؤقتاً، ثم استعان بأبي مسلم الخراساني للتخلص منه، وبعد أن فرغ من عمه، تخلص من أبي مسلم أيضاً.
التاريخ لا يبتكر جديداً، إنه فقط يبدّل الأسماء.
عبدالملك اليوم يستدعي يوسف المداني، خصمه القديم، ليوازن به نفوذ الرزامي والجناح السلالي. لكنه في النهاية، سيتخلص من الجميع حين تسنح اللحظة. فالطغاة لا يحتملون شركاء في السلطة، فقط أدوات مؤقتة.
في صعدة، يتكثف كل شيء: العائلة، والدم، والولاية، والموت.
لم يُظلم أحد كما ظُلمت صعدة، ولم تخشَ الجماعة عدواً كما تخشى ابن صعدة نفسه.
فمن هذه الجبال خرجت فكرة «المسيرة»، ومن ذات الجبال سيخرج من يدفنها.
لن يُسقط عبدالملك إلا صعداوي، من عترته أو من القبيلة، يعرفه كما يعرف ظله، ويدرك أين يضع قدمه حين يقرر دفن هذه الكارثة.
الصعداوي اليوم يغلي كبركانٍ محاصر.
هو يرى بلاده محتلة، كما نرى نحن اليمن مختطفة، وما نراه جرحاً وطنياً يراه هو خيانة لبيته الأول، فإن كان غضبنا على الكهنوت مرة، فغضبه ألف مرة.
صعدة هي الأمان الذي أهملناه، فصار رمادها ناراً أحرقت البلاد كلها من دماج إلى الحديدة إلى تعز.
الملف الحوثي ليس فقط حرباً على الدولة، بل حرباً داخل الذات الكهنوتية نفسها، بين ابن الولاية وابن القبيلة، بين العم والابن والظل.
وفي النهاية، سيأكل البركان أبناءه.


