عادل الأحمدي*
بسرعة خاطفة في مقياس الزمن، وبعيدا عن قشور الصورة المأساوية اليوم، فإن اليمنيين قطعوا أشواطاً كبيرة في مضمار البعث الكبير.
منذ 60 عاما فقط، تاريخ ثورة سبتمبر الخالدة، مر اليمنيون بأطوار سريعة ومتباينة؛ ثاروا، تحرروا، توحدوا، تعددوا، اختلفوا، تساهلوا وتنازعوا.. ذاقوا حلاوة النجاح ومرارة الفشل، ودفعوا الثمن ليكتسبوا حصانةً ولقاحاً ضد عدوهم الأبرز: كهنوت السلالة العنصرية. ولقاحاً آخر ضد مرضهم الأبرز: التناحر والتنازع وعدم أخذ المخاطر على محمل الجد.
اليمن إثر هذه التجربة الثرية والقاسية، مقبل على ألف عام من الحضارة. إنه وبلا أدنى شك يقف على أعتاب ألفية ذهبية يعم فيها الأمن والرخاء والعزة والإبداع.
هذا الوعي وهذا التفاؤل ستجده محسوماً لدى الآلاف من الأقيال والإكليلات الذين أبحروا في دراسة خصائص الذات اليمنية، وتبحّروا في استكشاف نواميس النهوض وقوانين البعث، فصارت هذه الحتمية (الألفية الذهبية) إحدى مسلّماتهم التي يعملون على تحقيقها بأعصاب هادئة وإيقاع متناغم ويقين معقود.
60 عاما منذ ثورة ال26 من سبتمبر 1962، تعدّ فترة بسيطة قياساً بقرونٍ حيكت فيها المكائد ضد شعب مُنتِج وعبقري مشكلته الوحيدة أنه طيب القلب لدرجة لم يكن يتخيل وجود كل هذا الحقد والاجرام في صدور أعدائه، ولكنه الآن أدرك ودفع الضريبة غالية، وقرر أن تقترن الطيبة بالكياسة والفروسية والفطنة والدهاء.
هذا ما سيخرج به اليمنيون من كل سنوات الوجع: العِبرة التي تجعل العواقب الكارثية للتهاون ماثلة نصب العيون. والخبرة التي تجعل التعامل السليم مع المخاطر مبنيّاً على سوابق موثقة. وكذلك الإنجاز المعرفي التوثيقي الذي يدق ناقوس الذاكرة كلما هاجمها شبح النسيان أو نشطت ضدها محاولات التغييب.
ولربما كانت الصورة عكسية والمستقبل سوداوياً لو أن هذا الشعب استسلم للخرافة وأسلم رقابه للكهنوت ولم تنبض شرايينه بدماء حارة جديدة ورفض واعٍ، لكنّ الصورة مبشرة لدى كل من يدرك تفاصيل المشهد الراهن والوعي المتصاعد في كل أرجاء الوطن وكل فئات الشعب.
ولقد جاء قدَرُنا نحن أبناء هذه العقود الصعبة، أن نعيش مرحلة انتقالية بالغة التعقيد، وأن نخوض التحدي الكبير الذي لا يقاس نجاحنا فيه بمجرد تجاوز الخطر فحسب، بل بمقدرتنا على وضع المداميك والأسس اللازمة لعدم تكرر الخطر.
والناس في هذه المرحلة أنواع وأقسام بحسب ثقافتهم وصلابة أرواحهم ومدى إخلاصهم لوطنهم، وبحسب مثابرتهم في تغيير مجرى الرياح.
فهناك الفارس الذي لا تهزه التطورات اليومية العابرة، لأنه صاحب قلب ذكي ونظر بعيد وجَلَد أكيد. لا يرتعد إذا ارتعد الناس ولا يرتبك إذا ارتبكوا، ولا يُعير مسامعه للشائعات والإرجاف، ولا يضع نفسه في مواطن الأطماع البائسة.
وثمة الجندي الشهم الذي لا يبتكر الحلول لوحده، ولكنه رجل يعرف الرجال ويحذو حذو الفرسان، لا يتقاعس ولا يتأخر، ويصب مياهه دائماً في نهر المبادئ العظيمة والصالح العام.
وهناك الإمّعة الذي يحسب نفسه ذكياً ولا يكلف نفسه عناء التدقيق، ويظل يراقب مجرى الرياح ويبني عليها مواقفه، فتراه يتبع صاحب الصوت المرتفع دون أن يتحرى صوابية الموقف.
وهناك المتردد.. وهو أنواع.. متردد بسبب انعدام سابق تجربة فلا يستطيع قياس مآلات الأمور، ولا يتنبأ بعواقب الأحداث بناءً على مقدماتها. ومتردد آخر بسبب الحسد والغيرة تجاه أصحاب السبق في مضمار الكرامة. ومتردد ثالث بسبب الخوف وقلة الحيلة.. وهذا، الأخير، حال أغلب الناس.
وهناك المستعجل الذي ينتظر الولادة فور سماعه بحدوث الحمل.. ليس لديه إحساس كافٍ بعامل الوقت، والوقت، كما قيل، أداء.. وما أكثر هذا النوع في أيامنا هذه.
وهناك المهزوم في أعماقه، فاقد الإيمان بنفسه وشعبه، مثَلُهُ كمثل بومة الخراب وغراب البين.
وثمة المتحمس الذي “حاسبها غلط”.. بياناته غير مكتلمة، ومعلوماته قاصرة، واطلاعه سطحي.
وهناك المعوَّقون ذهنياً وهم الذين لا يفهمون إلا بعد وقوع الفأس في الرأس، بل إنهم بعد كل تجربة مريرة يأخذون العبرة الخطأ والخلاصة الخطأ.
وإزاء كل هذه الأنواع يواصل الفرسان نضالهم يحدوهم حيوية الأمل وصدق الإيمان وقوة الحب وصلابة اليقين وحرارة الانتماء وغزارة الشعور بالقُدرة والكرامة. ولو سألتهم من أين لكم كل هذا التفاؤل سيقولون:
نستمد تفاؤلنا من إيماننا بالله الواحد الأحد الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة، سبحانه، وهو، كما أوحى جلّ شأنه، عند حسن ظن عبده به.
ونستمد تفاؤلنا من إيماننا بقضيتنا العادلة النبيلة في وجه عصابات الشر والخراب والعنصرية والزيف والهوان.
ومن حبنا وإيماننا بشعبنا الذي سبق وأن صنع المعجرات وأسهم في ولادة التاريخ ووضْع مداميك الحضارة والرقي. شعبنا الكريم الذي مثلما له سوابق مضيئة في الأمس البعيد، له أيضاً شواهد مضيئة اليوم والأمس القريب.
ونستمد تفاؤلنا من ثقتنا بأنفسنا وإخلاصنا لشعبنا وأمتنا وديننا ومبادئنا وشهدائنا، ومن شعورنا بالمسؤولية وترفُّعنا وتأفُّفنا عن كل مطمع زائل أو مطمح رخيص.
ووفقاً لعلماء الاجتماع فإن نهضة أية أمة تبدأ بحالة من الشعور تسري بين أبناء الأمة بِضِعَة الحاضر ورداءة الواقع المعاش وضروره تغييره.. والحق أنه لا يكفي هذا الشعور ما لم يكن ذلك مقروناً بالثقة في مقدرتنا على إحداث ذلك التغيير.
إذن فنحن نخوض معركة كرامة ومعركة إرادة، ومهم أن ننجح في الثانية لكي ننتصر في الأولى.
سينقشع الغبار وسيغدو ذكرى سيئة الصيت، وسيعود اليمن حراً كريماً عزيزاً معافى، وسيسهم مجدداً في عزة أرضه ورفاه البشرية جمعاء.. علينا فقط أن نعمل على أرشفة اللحظة وتوثيقها للأجيال كي لا ننخدع مجددا، وأن نوقن بحتمية الخلاص حتى نختصر الوقت.
*كاتب وباحث سياسي – مستشار لدى مركز البحر الاحمر للدراسات.