
حين قامت ثورة الخميني عام 1979م، كانت “الجمهورية” في إيران ما تزال كلمة بلا تاريخ، بلا تجربة سابقة تمنحها المضمون اللائق.
ولهذا لم يواجه رجال الدين الشيعة أدنى صعوبة في الاستحواذ على المصطلح الجمهوري وتقديمه -بمحتوى غير جمهوري- كبديل للنظام الملكي البهلوي.
والنتيجة كانت تعريضه للمسخ والتشويه، في الفكر وفي العمل.
قبل ذلك التاريخ بعقود، وتحديداً أثناء الإطاحة بحكم السلالة القاجارية عام 1921، عاشت إيران انقساماً حاداً بين تيارين:
أحدهما يطالب بتأسيس نظام جمهوري على غرار “الجمهورية التركية” التي تم إعلانها في أنقرة على أنقاض الخلافة العثمانية، والآخر كان على النقيض من هذا المطلب.
وقد قف رجال الدين في الحوزات من الفكرة الجمهورية موقفاً مناوئاً، ومعروف ما يتمتعون به في إيران من ثقل ونفوذ.
ولعلهم رأوا في الجمهورية تهديداً مباشراً لمكانتهم، بعد أن بلغهم ما آلت إليه الأمور في تركيا الكمالية، حيث جرى إقصاء الدين من المجال العام.
في تلك الفترة، تصدّر الجنرال رضا خان -الذي سيتخذ لاحقاً لقب “بهلوي”- المشهد الإيراني باعتباره الرجل القوي القادر على إنقاذ البلاد. وقد كان يتمتع بشعبية لافتة.
وحين اشتد الخلاف بين أنصار الجمهورية ومعارضيها، آثر رضا خان تأجيل الحسم في طبيعة نظام الحكم، محتجاً بأن الأولوية آنذاك هي ترسيخ استقلال البلاد وتثبيت مظاهر التقدم والتحديث.
وفي عام 1925، تم تنصيب رضا خان وصياً على عرش إيران، خلفاً لآخر شاه من القاجاريين.
ولم يلبث أن وجد الفرصة لإعلان نفسه ملكاً، متخذاً لقب “بهلوي”، وهو ما لم يكن ليحدث لولا ميل المناخ العام نحو الملكية الدستورية المقيدة.
في وقت لاحق، قام رضا بهلوي بتعيين ابنه الأكبر، محمد رضا، ولياً للعهد، ليؤسس بذلك سلالة جديدة على أنقاض السلالة السابقة.
يُعتبر رضا بهلوي -في نظر كثير من المؤرخين- “مؤسِّس إيران الحديثة”، ويُنظر إليه بوصفه النظير الإيراني لكمال أتاتورك في تركيا.
لكن ما يعنينا هنا هو أن الفكرة الجمهورية قد اختفت عملياً من الأفق السياسي والمعرفي الإيراني منذ تلك الحقبة،
ولم تُبعث من جديد إلا في العام 1979، ولكن في صورة مشوهة، بوصفها ملصقاً خارجياً لنظام “الولي الفقيه”.
وهكذا فـ “الجمهورية الاسلامية” هو اسم النظام السياسي الحاكم لا اسم البلاد.
وحين تسمع معارضاً إيرانياً يهاجم “الجمهورية الاسلامية”، فهو لا يهاجم بلاده إيران بل نظام الحكم المسمى بهذا الاسم.
وهو لا يقول انه ضد “الجمهورية” ويصمت، بل يضيف “الاسلامية” بما يفيد التخصيص، ومعنى هذا أنه ضد جمهورية بعينها، لا ضد مبدأ الجمهورية بإطلاق.
هذا على الرغم من أن الشريحة الأكبر من معارضي النظام ملكيين بهلويين، لكن حتى هؤلاء أكثر تقبلاً لفكرة الدولة الحديثة من أنصار “الجمهورية الإسلامية” التي هي مجرد تسمية أخرى لإمامة “الولي الفقيه”.
الصراع الداخلي في ايران على المستوى الوطني -منذ 79- هو بين “التاج” و”العمامة”.
تغيّرت الوجوه، لكن الاستقطاب في العمق ظل يدور في فلك هذين الرمزين.
التيارات الأخرى، المعارضة لكليهما، موجودة لكنها منقسمة، بلا فكرة موحِّدة ولا قيادة جامعة.
هناك حركات ونزعات انفصالية، عرقية أو دينية، وهذه موضوعها مختلف.
الحديث هنا يقتصر على الانقسام المركزي الكلّي.
والحال أن الإيراني يلتفت إلى المئة عام الأخيرة من تاريخ بلاده السياسي، فيقرأ فيها قصة من فصلين متنافرين:
54 عاماً مَلَكية بهلوية غلَب عليها الطابع الوطني العلماني التحديثي، على الأقل قياساً إلى ما قبلها وما بعدها،
في مقابل 46 عام “جمهورية إسلامية”، تأسست على قاعدة إمامية شيعية محدثة، بوعود مهدوية خلاصية كبرى.
ثم يستسلم الإيراني، على الرغم منه، لمقارنات لا تنقطع بين الزمنين والفصلين، فيحاكم الأمور بمعايير وطنية محلية.
وبهذا يكون تذكّر “الماضي” أشبه بورقة احتجاج رمزي على انحطاط “الحاضر”.
لقد عاد الخـ.ـميني من منفاه في باريس على طائرة فرنسية إلى عرش فارس. هتف له الإيرانيون في الشوارع وحملوه على الأعناق وجعلوا منه إلهاً معبوداً.
والآن، ها هو ابن الشاه، الأمير رضا بهلوي الثاني، يخاطب الشعب الإيراني من منفاه في الولايات المتحدة الأمريكية..
فهل سيعود إلى عرش والده بطريقة مشابهة للطريقة التي عاد بها الخميني من منفاه؟
لعل هذا هو سؤال اللحظة في إيران، وهو مع ذلك أصعب الأسئلة.


